فن الحديث عن المحاسبة مع غير المحاسبين

Published on: 29/10/2025

في عالم الأعمال المتسارع، يُعدّ فهم اللغة المحاسبية مهارة حيوية لا تقتصر على المحاسبين فحسب، بل تمتد لتشمل روّاد الأعمال، المديرين، وحتى الموظفين في مختلف التخصصات. لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في فهم هذه اللغة، بل في قدرة المحاسب على شرح مفاهيمها المعقدة بلغة بسيطة يفهمها غير المتخصصين. فكيف يمكن للمحاسب أن ينقل معلومات دقيقة دون أن يُثقل الطرف الآخر بمصطلحات تقنية؟ وما السبل التي تجعل الحديث عن الأرقام تجربة مشوّقة وليست مملّة؟ هذا المقال يقدّم رؤى عملية حول كيفية التواصل الفعّال في مجال المحاسبة مع جمهور غير متخصص، مع التركيز على البساطة، الوضوح، والملاءمة.

بناء جسر من الفهم المشترك

أول خطوة في الحديث عن المحاسبة مع غير المحاسبين هي بناء جسر من الفهم المشترك. لا يمكن افتراض أن الطرف الآخر يعرف ما تعنيه مصطلحات مثل “الإهلاك” أو “التدفقات النقدية”. لذا، يجب أن يبدأ المحاسب بتحديد مستوى المعرفة لدى المستمع، ثم يختار الكلمات المناسبة التي تُقرّبه من فهم المفاهيم الأساسية. استخدام التشبيهات اليومية أو الأمثلة الواقعية يساعد كثيراً في توضيح الأفكار المجردة. مثلاً، يمكن تشبيه الميزانية العمومية بخريطة مالية تُظهر أين تقف الشركة مالياً في لحظة معينة، تمامًا كما تُظهر الخريطة موقعك الجغرافي.

تجنّب المصطلحات الفنية المعقدة

من أكثر الأخطاء شيوعاً بين المحاسبين هو الاعتماد المفرط على المصطلحات الفنية دون شرحها. قد يبدو ذلك طبيعياً للمحترف، لكنه يُشعر غير المتخصص بالارتباك أو حتى بالدونية. بدلاً من قول “صافي الربح التشغيلي”، يمكن القول “الأرباح التي تحققت من النشاط الأساسي للشركة بعد خصم المصروفات”. هذا النهج لا يقلل من دقة المعلومات، بل يجعلها في متناول الجميع. الهدف ليس إخفاء التعقيد، بل تسهيل الوصول إليه.

التركيز على الجوانب العملية والنتائج

غير المحاسبين لا يهتمون عادة بكيفية وصولك إلى رقم معين، بل بما يعنيه هذا الرقم بالنسبة لهم. لذا، يجب أن يركّز المحاسب على النتائج العملية: هل هذا الرقم جيد أم سيئ؟ ما تأثيره على الأرباح؟ هل يشير إلى مشكلة تحتاج تدخلاً؟ مثلاً، بدل أن تقول “نسبة التداول 1.5″، قل “الشركة لديها سيولة كافية لتغطية التزاماتها قصيرة الأجل بمقدار 1.5 مرة”. هذا النوع من الشرح يربط الأرقام بالواقع ويجعلها ذات معنى.

استخدام القصص لتوصيل الرسائل المالية

البشر بطبيعتهم يحبون القصص، وليس الأرقام الجافة. لذا، يمكن للمحاسب أن يستخدم سرداً قصصياً لتوضيح موقف مالي معين. مثلاً، عند شرح أهمية التدفق النقدي، يمكن سرد قصة شركة ناجحة من حيث الأرباح لكنها أفلست بسبب نقص السيولة. هذه القصة تُظهر أن الربح لا يعني بالضرورة وجود نقود في الخزينة، وهو درس لا يُنسى. القصص تُضفي طابعاً إنسانياً على الأرقام وتجعلها أكثر قرباً من حياة المستمع.

تبسيط البيانات عبر الرسوم البيانية

العين تفهم الصور أسرع من الكلمات، خاصةً عند التعامل مع كميات كبيرة من البيانات. لذا، من المفيد استخدام الرسوم البيانية البسيطة لتوضيح الاتجاهات أو المقارنات. مثلاً، بدلاً من عرض جدول يحتوي على أرباح شهرية، يمكن استخدام مخطط خطي يُظهر صعوداً أو هبوطاً واضحاً. الأهم أن تكون هذه الرسوم واضحة، غير مزدحمة، ومصحوبة بشرح موجز يربطها بالرسالة الأساسية التي تريد إيصالها.

الإستماع قبل الشرح

التواصل الفعّال لا يبدأ بالحديث، بل بالاستماع. قبل أن يبدأ المحاسب في شرح أي مفهوم مالي، عليه أن يستمع جيداً لاحتياجات الطرف الآخر: ما الذي يريده تحديداً؟ ما قلقه؟ ما هدفه من هذا الحديث؟ قد يطلب مدير مبيعات فهماً لتأثير خصومات المبيعات على الربحية، بينما يهتم صاحب المشروع بمعرفة ما إذا كان بإمكانه سحب أرباح دون التأثير على السيولة. فهم هذه الاحتياجات يوجّه طريقة العرض والمحتوى.

التأكيد على أهمية المحاسبة في اتخاذ القرار

المحاسبة ليست مجرد تسجيل أرقام، بل أداة استراتيجية لاتخاذ القرار. عند الحديث مع غير المحاسبين، يجب أن يبرز المحاسب هذا البُعد. مثلاً، يمكن توضيح كيف أن تحليل التكاليف يساعد في تحديد المنتجات الأكثر ربحية، أو كيف أن مراقبة المصروفات تُجنّب الشركة الهدر. عندما يُدرك غير المحاسبين أن المحاسبة تخدم أهدافهم اليومية، يصبحون أكثر تقبلاً لها وأقل مقاومة لمفاهيمها.

تجنّب الإطالة والتفصيل غير الضروري

الغوص في التفاصيل الدقيقة قد يكون ضرورياً في التقارير الرسمية، لكنه عدو التواصل مع غير المتخصصين. يجب أن يركز المحاسب على النقاط الجوهرية فقط، ويتجنّب التفاصيل التي لا تضيف قيمة لفهم الطرف الآخر. مثلاً، لا داعي لشرح كل بند في قائمة الدخل، بل يكفي التركيز على البنود التي تؤثر مباشرة على قرارات المستمع أو تهمه شخصياً. البساطة هنا ليست تبسيطًا مفرطًا، بل ذكاء في اختيار ما يُقال وما يُحذف.

خلق بيئة تفاعلية للحوار

الحديث عن المحاسبة لا يجب أن يكون محاضرة من طرف واحد. بل يجب أن يشجّع المحاسب على طرح الأسئلة، واستفسار الطرف الآخر، بل وحتى مناقشة الأفكار. هذا النوع من التفاعل يكشف سوء الفهم مبكراً، ويعزز الثقة، ويجعل التعلم أكثر فاعلية. يمكن أن يبدأ المحاسب بسؤال بسيط مثل: “هل هذا يتوافق مع تجربتك؟” أو “هل ترى أن هذا الرقم منطقي بالنسبة لنشاطك؟”.

استخدام لغة الجسد ونبرة الصوت

حتى في الحديث عن الأرقام، تلعب لغة الجسد ونبرة الصوت دوراً كبيراً في إيصال الرسالة. الصوت الهادئ والواثق، والابتسامة، والتواصل البصري، كلها عناصر تُقلل من حدة الجفاف الذي قد يشعر به المستمع. كما أن استخدام الإيماءات البسيطة أو الإشارة إلى الرسوم أثناء الشرح يعزز الفهم. فالمحاسب الناجح لا ينقل معلومة فحسب، بل يخلق تجربة تواصل إيجابية.

التدرّب على التبسيط دون التفريط في الدقة

القدرة على تبسيط المفاهيم المحاسبية دون التفريط في دقتها هي مهارة تكتسب بالممارسة. على المحاسب أن يتدرب على إعادة صياغة الجمل الفنية بلغة يومية، وأن يختبر فهم الآخرين بعد كل شرح. يمكنه أن يطلب من زميل غير محاسب أن يستمع إليه ويُقيّم مدى وضوحه. مع الوقت، يصبح المحاسب قادراً على التوازن بين الدقة المهنية والبساطة التواصلية، وهو ما يجعله شريكاً استراتيجياً فعّالاً في المؤسسة.

//// نصائح مفيدة

ابدأ دائمًا من نقطة اهتمام المستمع – ركّز على ما يهمه هو، وليس على ما تريد أنت قوله.
استخدم أمثلة من واقع عمله – هذا يجعل المفاهيم أكثر قرباً وملموسة.
اختصر ولا تُطنب – قدّم جوهر الفكرة دون الدخول في تفاصيل تقنية غير ضرورية.
اسأل عما إذا كان قد فهم – لا تفترض الفهم، بل تأكد منه بلطف.
استعن بالتشبيهات – فهي جسور ذهنية تربط المفاهيم الجديدة بما هو مألوف.
تجنّب لهجة التعليم أو التوجيه – تحدّث كشريك، لا كمُعلّم.
اختَر الوقت والمكان المناسبين – الحديث عن الأرقام يحتاج تركيزاً من الطرفين.
كن مستعداً للإجابة عن “لماذا؟” – غير المحاسبين غالباً ما يسألون عن السبب أكثر من “كيف؟”.
استخدم أدوات بصرية بسيطة – حتى لو كانت مجرد رسم سريع على ورقة.
تذكّر أن هدفك هو الفهم، ليس الإبهار – لا تحاول إثبات معرفتك، بل سهّل على الآخرين فهمك.

// إحصائيات هامة

وفقاً لاستطلاعات رأي داخلية في شركات عالمية، 73% من المديرين غير الماليين يشعرون بالارتباك عند قراءة التقارير المالية دون شرح مبسّط.
68% من روّاد الأعمال الناشئين يعترفون بأنهم لا يفهمون الفرق بين الربح والتدفق النقدي.
الشركات التي تُدرّب محاسبيها على التواصل مع غير المتخصصين تحقق تحسناً بنسبة 40% في جودة القرارات المالية.
82% من الموظفين يفضلون شرحاً شفوياً مبسطاً على قراءة تقارير مالية مفصلة.
متوسط الوقت الذي يقضيه مدير غير مالي في قراءة تقرير مالي كامل لا يتجاوز 7 دقائق.
55% من الأخطاء الإدارية الكبرى تعود إلى سوء فهم المعلومات المالية.
91% من المحاسبين يعترفون أنهم لم يتلقوا أي تدريب رسمي على مهارات التواصل مع غير المتخصصين أثناء دراستهم.

أسئلة شائعة !

1. ما الفرق بين الربح والتدفق النقدي؟

الربح هو الفرق بين الإيرادات والمصروفات خلال فترة معينة، حتى لو لم تُستلم الأموال فعلياً. أما التدفق النقدي فهو حركة النقود الفعلية الداخلة والخارجة من الشركة. شركة قد تكون رابحة على الورق لكنها تعاني من نقص في السيولة لأن عملاءها لم يدفعوا بعد.

2. لماذا لا تكفي الأرباح لقياس صحة الشركة؟

لأن الأرباح لا تعكس السيولة أو القدرة على سداد الالتزامات. قد تُسجّل شركة أرباحاً عالية لكنها لا تملك نقداً كافياً لدفع الرواتب أو الفواتير، مما قد يؤدي إلى إفلاسها رغم ربحيتها.

3. كيف أفهم الميزانية العمومية بسرعة؟

فكّر فيها كصورة فوتوغرافية لوضع الشركة المالي في لحظة معينة: ما تملكه (الأصول)، وما تدين به (الخصوم)، وما يبقى لك (حقوق الملكية). العلاقة الأساسية: الأصول = الخصوم + حقوق الملكية.

4. هل يمكن لغير المحاسب أن يقرأ التقارير المالية؟

نعم، خاصة إذا تم شرح المصطلحات الأساسية وتم التركيز على البنود ذات الصلة بنشاطه. الفهم لا يتطلب أن تصبح محاسباً، بل أن تفهم ما تعنيه الأرقام بالنسبة لك.

5. ما أول شيء يجب أن أنظر إليه في التقرير المالي؟

ابدأ بالتدفق النقدي من الأنشطة التشغيلية، فهو يعكس قدرة الشركة على توليد نقد من نشاطها الأساسي، وهو مؤشر حاسم على استدامتها.

خاتمة

الحديث عن المحاسبة مع غير المحاسبين ليس تحدّياً تقنياً فحسب، بل فرصة لبناء جسور تفاهم وتمكين الآخرين من اتخاذ قرارات أفضل. المحاسب الناجح اليوم ليس فقط من يُتقن الأرقام، بل من يُتقن لغة البشر. فعندما يُصبح المفهوم المالي واضحاً، يصبح القرار أكثر دقة، والثقة أكثر رسوخاً، والعمل أكثر كفاءة. لذا، دعونا نُخرس لغة الأرقام بلغة القلوب والعقول، ونجعل المحاسبة أداة مشتركة للنجاح، لا سراً محصوراً في دفاتر مغلقة.